الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قلت: وكان يكون الجواب مقصورًا عليهم لا يتعدى لغيرهم، لولا ما تقرر من حكم الشريعة أن حكمه على الواحد حكمه على الجميع، إلاَّ ما نص بالتخصيص عليه، كقوله لأبي بُرْدة في العناق: «ضَحِّ بها ولن تُجزىء عن أحد غَيرك».السادسة قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} التحريم ليس صفة للأعيان، وإنما يتعلق بالأفعال؛ فمعنى قوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر} أي فعل الصيد، وهو المنع من الاصطياد، أو يكون الصيد بمعنى المصيد، على معنى تسمية المفعول بالفعل كما تقدّم، وهو الأظهر؛ لإجماع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم قبول صيد وُهِب له، ولا يجوز له شراؤه ولا اصطياده ولا استحداث ملكه بوجه من الوجوه، ولا خلاف بين علماء المسلمين في ذلك؛ لعموم قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}؛ ولحديث الصَّعْب بن جَثَّامة على ما يأتي.السابعة اختلف العلماء فيما يأكله المحرم من الصَّيد، فقال مالك والشافعيّ وأصحابهما وأحمد، وروي عن اسحاق، وهو الصحيح عن عثمان بن عفان: إنه لا بأس بأكل المحرم الصّيد إذا لم يُصَد له، ولا من أجله؛ لما رواه الترمذيّ والنَّسائيّ والدَّارَقُطْنِيّ عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صيد البرّ لكم حلال ما لم تَصيدوه أو يُصَد لكم» قال أبو عيسى: هذا أحسن حديث في الباب؛ وقال النّسائيّ: عَمرو بن أبي عَمرو ليس بالقويّ في الحديث، وإن كان قد رَوى عنه مالك.فإن أكل من صيدٍ صِيد من أجله فداه.وبه قال الحسن بن صالح والأوزاعيّ، واختلف قول مالك فيما صيد لمحرم بعينه.والمشهور من مذهبه عند أصحابه أن المحرم لا يأكل مما صِيد لمحرم معيّن أو غير معيّن، ولم يأخذ بقول عثمان لأصحابه حين أُتي بلحم صيد وهو مُحرِم: كُلُوا فلستم مثلي لأنه صِيد من أجلي؛ وبه قالت طائفة من أهل المدينة، وروي عن مالك.وقال أبو حنيفة وأصحابه: أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال، سواء صِيد من أجله أو لم يُصَد لظاهر قوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فحرّم صيده وقتله على المحرمين، دون ما صاده غيرهم.واحتجوا بحديث البَهْزِيّ واسمه زيد بن كعب: عن النبي صلى الله عليه وسلم في حمار الوحش العقِير أنه أمر أبا بكر فقسمه في الرّفاق؛ من حديث مالك وغيره.وبحديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «إنما هي طُعْمة أطعمكموها الله» وهو قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان في رواية عنه، وأبي هريرة والزُّبير بن العوّام ومجاهد وعطاء وسعيد بن جُبير.ورُوي عن عليّ بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر أنه لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال، سواء صِيد من أجله أو لم يُصَد؛ لعموم قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}.قال ابن عباس: هي مبهمة، وبه قال طاوس وجابر بن زيد أبو الشعثاء، وروي ذلك عن الثّوريّ، وبه قال إسحاق.واحتجوا بحديث الصَّعْب بن جَثَّامة الليثيّ: أنه أَهْدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيًا، وهو بالأَبْوَاء أو بوَدَّان فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: فلما أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي قال: «إنا لم نرده عليك إلاَّ إنا حُرُم» خرجه الأئمة واللفظ لمالك.قال أبو عمر: وروى ابن عباس من حديث سعيد بن جُبير ومقْسَم وعطاء وطاوس عنه: أن الصَّعْب بن جَثَّامة أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حمار وحشٍ؛ وقال سعيد بن جُبَير في حديثه: عَجُز حمار وحشٍ فردّه يقطر دمًا كأنه صِيد في ذلك الوقت؛ وقال مِقْسَم في حديثه: رِجْل حمار وحشٍ.وقال عطاء في حديثه: أهدي له عَضُد صيد فلم يقبله وقال: «إنّا حُرُم» وقال طاوس في حديثه: عَضُدًا من لحم صيد؛ حدّث به إسماعيل عن عليّ بن المَدِينيّ، عن يحيى بن سعيد، عن ابن جُرَيْج، عن الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس، إلاَّ أن منهم من يجعله عن ابن عباس عن زيد بن أرقم.قال إسماعيل: سمعت سليمان بن حرب يتأوّل هذا الحديث على أنه صِيد من أجل النبي صلى الله عليه وسلم، ولولا ذلك لكان أكله جائزًا؛ قال سليمان: ومما يدل على أنه صِيد من أجل النبي صلى الله عليه وسلم قولهم في الحديث: فردّه يقطر دمًا كأنه صِيد في ذلك الوقت.قال إسماعيل: إنما تأوّل سليمان هذا الحديث؛ لأنه يحتاج إلى تأويل؛ فأما رواية مالك فلا تحتاج إلى التأويل؛ لأن المحرم لا يجوز له أن يُمسك صيدًا حيًا ولا يُذكِّيه؛ قال إسماعيل: وعلى تأويل سليمان بن حرب تكون الأحاديث المرفوعة كلها غير مختلفة فيها إن شاء الله تعالى.الثامنة إذا أحرم وبيده صيد أو في بيته عند أهله فقال مالك: إن كان في يده فعليه إرساله، وإن كان في أهله فليس عليه إرساله.وهو قول أبي حنيفة وأحمد بن حنبل.وقال الشافعي في أحد قوليه: سواء كان في يده أو في بيته ليس عليه أن يرسله.وبه قال أبو ثور، وروي عن مجاهد وعبد الله بن الحرث مثله، وروي عن مالك.وقال ابن أبي ليلى والثوريّ والشافعيّ في القول الآخر: عليه أن يرسله، سواء كان في بيته أو في يده؛ فإن لم يرسله ضَمِن.وجه القول بإرساله قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} وهذا عام في المِلك والتصرف كله.ووجه القول بإمساكه: أنه معنى لا يمنع من ابتداء الإحرام فلا يمنع من استدامة ملِكه؛ أصله النكاح.التاسعة فإن صاده الحلال في الحِلّ فأدخله الحرم جاز له التصرف فيه بكل نوع من ذبحه، وأكل لحمه.وقال أبو حنيفة: لا يجوز.ودليلنا أنه معنًى يُفعلَ في الصيد فجاز في الحرم للحلال، كالإمساك والشراء ولا خلاف فيها.العاشرة إذا دل المحرم حِلاَّ على صيد فقتله الحلال اختلف فيه؛ فقال مالك والشافعي وأبو ثور: لا شيء عليه؛ وهو قول ابن الماجِشُون.وقال الكوفيون وأحمد وإسحاق وجماعة من الصحابة والتابعين: عليه الجزاء؛ لأن المحرم التزم بإحرامه ترك التعرّض؛ فيضمن بالدلالة كالمودع إذا دل سارقًا على سرقة.الحادية عشرة واختلفوا في المحرم إذا دل محرمًا آخر؛ فذهب الكوفيون وأشهب من أصحابنا إلى أن على كل واحد منهما جزاء.وقال مالك والشافعي وأبو ثور: الجزاء على المحرم القاتل؛ لقوله تعالى: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا} فعلق وجوب الجزاء بالقتل، فدل على انتفائه بغيره؛ ولأنه دالّ فلم يلزمه بدلالته غُرْم، كما لو دل الحلال في الحرم على صيد في الحرم.وتعلق الكوفيون وأشهب بقوله عليه السَّلام في حديث أبي قَتَادة: «هل أَشرتم أو أَعنتم»؟ وهذا يدل على وجوب الجزاء.والأوّل أصح. والله أعلم.الثانية عشرة إذا كانت شجرة نابتة في الحل وفرعها في الحرم فأصيب ما عليه من الصيد ففيه الجزاء؛ لأنه أخذ في الحرم.وإن كان أصلها في الحرم وفرعها في الحل فاختلف علماؤنا فيما أُخذ عليه على قولين: الجزاء نظرًا إلى الأصل، ونفيه نظرًا إلى الفرع.الثالثة عشرة: قوله تعالى: {واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تشديد وتنبيه عقب هذا التحليل والتحريم، ثم ذكر بأمر الحشر والقيامة مبالغة في التحذير. والله أعلم. اهـ.
|